موسم العُولة: حين يتعطّر الوطن بذاكرة البيوت

ذاكرة الزمن الجميل

مع حلول فصل الخريف، تستيقظ البيوت التونسية على طقسٍ موروث اسمه العُولة. العُولة في معناها البسيط هي المؤونة السنوية (المونة) التي تُحضّرها العائلة لتأمين حاجاتها الغذائية على طول العام. لكنها في معناها الأعمق هي ذاكرة جماعية (الذاكرة المشتركة) تخزن رائحة الطفولة و دفء الجدّات ولمّة الجيران

المقصورة و الكنوز المخفية

تبدأ الحكاية من المخزن العائلي (المقصورة)، ذاك المكان البارد العابق بروائح التوابل و الزيت و الزيتون، حيث كانت العائلات تخزن مؤونتها: زيت زيتونة (زيت زيتون)، فلفل الأحمر (الفلفل شُرَيطة : الفلفل الأحمر المجفف تحت أشعة الشمس)، الآفاحات (التوابِل)،  الشعير (شربة الفريك) البسيسة و الكسكسي (كسكسي الدار). المقصورة ليست مكاناً مادياً فقط، بل هي رمز للبَركة و النِعمة و حرص العائلة على الاستعداد لمواسم الشتاء

ورشة الحياة فوق الأسطح

مع بزوغ الشمس، تتحول البيوت إلى ورشات جماعية (الحوسة). تُمدّ الأواني الكبيرة (القصع)، و تُغسل الأغطية (الملاحف)، و تُهيّأ المناخل (الغرابل) لتُعرَض تحت أشعة الشمس (الشميسة). النساء يقمن بـتنقية التوابل (تنضيفها من الشوائب)، نشرها (ننشروها) على الأسطح، ثم طحنها (نرحيوها). كل ذلك يتمّ وسط نظام شعبي (نظام الحومة) لا يخلو من الفوضى الجميلة

المرأة: روح العُولة

النساء هنّ الحافظات  لهذا الطقس. كل واحدة تؤدي دورها: إحداهن تغربل (تغربل)، أخرى تطحن (ترحي)، ثالثة تنشر (تنشر)، و رابعة تُعدّ أبريق الشاي (براد التاي) على موقد النار (الكانون). خلال العمل، ترتفع أصوات الأغاني الشعبية  تتخللها الزغاريد (الزغاريط)، وتُروى القصص القديمة (حكايات زمان). أما البخور فيتصاعد في البيت، « يُجعجع » في الأرجاء، ليبارك العمل و يمنح المكان هيبة و طمأنينة

الطفولة في قلب الطقس

الأطفال، بدورهم، يُشكّلون جزءاً من هذا الاحتفال. يُكَلفون بمهام صغيرة: حمل الغربال، جمع الفلفل، أو مجرد المراقبة. أصابعهم تلوَّن بالفلفل الأحمر (الفلفل عكري)، و ضحكاتهم تملأ الأجواء. إنها ذكريات دافئة تبقى معهم طيلة العمر، و تجعل العُولة بالنسبة لهم رمزاً للبراءة و الانتماء العائلي (اللمة

المغتربون: حين تصل رائحة الوطن إلى الغربة

العُولة لا تَخصّ الداخل فقط، بل تمتد إلى من هم في الخارج. آلاف التونسيين المهاجرين يعيشون الموسم بلهفة. بعضهم يعود خصيصاً إلى تونس في هذه الفترة ليعيش تفاصيل الطقس: شمس سبتمبر (قوايل الرمان)، الفلفل الأحمر المنشور فوق الأسطح مفروش فوق السطوح)، ضحكات النساء، ورائحة الأفاحات (التوابل الجديدة)

أما الذين لا يستطيعون العودة، فينتظرون الطرود: أكياس صغيرة من الأفاحات المنزلية (التابل، الكروية، الكركم و الفلفل الأحمر)، علب من المعجون و العسل، و قوارير من زيت الزيتون (زيت زيتونة)  و فاشكات ماء الورد، الزهر و العطرشاء (قوارير معبأة بالمياه العطرية التقليدية). وما إن يفتحوا تلك الطرود حتى تفوح منها رائحة تونس: كأنّ الوطن قد حضر بنفسه في بيتهم (في الغُربة  

الاقتصاد الشعبي و التكافل

موسم العُولة أيضاً مدرسة اقتصادية. هو لحظة ادخار (التدبير) جماعي يجنّب العائلات مواجهة غلاء السوق. وهو مناسبة للتعاون: الجارات يتبادلن الأدوات، كل بيت يعين الآخر، وكل يد تُمدّ لتخفيف مشقة العمل. هكذا تتحول العُولة إلى تجسيد للتضامن (التعاون) الشعبي، حيث تتشارك الأحياء في صنع البركة.

لحظة الطهي الأول

اللحظة الأجمل في العُولة هي طهي أول فطور بالآفاحات الجديدة (وجبة بالتوابل الجديدة). قد تكون مرقة العِرس (مرقة بصل و معدنوس) أو الكسكسي المفّور (الطري) أو الحلالم (حاجة جارية)

تفوح الرائحة في الأزقة، و يُعرَف الطبق « من راس النهج »، فيشعر بها كل من يمرّ، و كأنها دعوة جماعية للغداء و الإجتماع حول الميدا (طاولة الغداء  

العُولة هوية وروح

في النهاية، تبقى العُولة أكثر من مجرد مؤونة. إنها طقس هوياتي (عاداتنا) يجمع الماضي بالحاضر. هي ذاكرة النساء (ذاكرة الجدّات)، لعب الأطفال، أغاني الحومة، و شمس تونس (الشميسة) التي لا تبخل بوهجها 

إنها صورة للوطن بكل تفاصيله؛ بَخور يتصاعد، فلفل يُنشر، غربال يُهزّ و مهراس يُدق و ضحكة تُطلق بعفوية فتُنعش المكان

العُولة هي تونس مختصرة؛ طعم (مذاق)، رائحة (ريحة)، صوت وصورة تعيش معنا حيثما كنا، في الداخل أو في الغُربة، هي وعد بأن الوطن مهما ابتعدنا، يظل حاضراً في قَصْعَةِ طعام، في برَّاد شاي أو في علبة صغيرة من التابل تصلنا عبر الحدود

بقلم سيريــــــن عبـــــيدي

بصوت زيــنب بوخريـــص

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *