Votre Panier
Votre Panier est actuellement vide.
الفجر في القيروان… حين يوقظ العطر الأرواح، مع أول أذان للفجر، الذي تسلل ناعمًا من مئذنة الجامع الكبير، جامع عقبة بن نافع، استيقظنا كأن أحدًا نادانا بأسمائنا، لم يكن صوتًا فقط، بل استدعاءً روحيًا، لقد حان وقت جَمْعَان النوار، وقت استحضار الذاكرة في قارورة
قصَدْنا ربي لِ »ذْراع التمَّار » وين السواني على مد البصر، أخذنا كنزنا الوردي و وضعناه في السيارة برفق كما تُحفظ الذكريات في صندوق عتيق. كانت القفاف مملوءة بورود عربية طرية، تُشبه قلوب الصبايا في رقّتها، و مع انطلاقنا، تسرّبت رائحة الورد بيننا،
فغنّينا أغاني العُرس القديمة، التي تطرب القلب قبل الأذن
كل واحدة منّا أمسكت وردة، تنظر إليها و كأنها تقرأ ملامح جدّتها، و بين ضَحِكَاتْ الطريق و صمت الحنين، بدأت ملامح المدينة العربي في القيروان تظهر شيئًا فشيئًا، الأبواب الخشبية الزرقاء، النوافذ التي تحتفظ ببقايا الزمن، الزليج العتيق و الهدوء المتواطئ مع الحنين
وصلنا إلى الدار، البيت القيرواني بجدرانه العالية و زليجه المُزَرْكَشْ و نوافذه الخشبية، لم يكن مجرّد مكان بل حضن ممتدّ عبر الزمن. جدرانه تهمس بحكايات الماضي، قَاعُهُ تَحْفَظُ آثار أقدام النساء اللاتي عَبَرْنَا فيه بِحكاياتهن، بِصبرهن، بِعطرهنّ
في وُسْط الدَّار، وضَعنا الورد، رتّبناه على مَلْحَفَة بيضَاء كما تُرتّب الأعراس. نمنا فقط بضع ساعات، و الورد حولنا يهمس بنفَسٍ نديّ، لكن قلوبنا كانت يقِظة، تنتظر كمن ينتظر موعدًا مع الذاكرة
في المطبخ العتيق، حيث الكانون من الطين، و القفّة معلّقة على الحائط، تحوّل المكان إلى مسرح حميمي. أعادت « ماماتي فاتن » ترتيب الورد، وضعت القَطَّارْ في مكانه، أشعلت النار بنفسها، و بدأنا نُقطّر
الصبايا لففن شعرهن بالمحارم و وقفن في صف كأنهن باقة من الورد. الصغار يراقبون من الزوايا و الدار امتلأت بروائح مختلطة، ريحة الورد، القهوة و الحنين إلى أيام زمان
القَطَّارْ – آلة التقطير التقليدية، انتصب بفخر وسط المطبخ هو أكثر من أداة، هو خزّان أسرار العائلة، مكوّن من جزئين
الجزء السفلي – فيه تطهى الورود مع الماء
الجزء العلوي – يجمع البخار و يكثّفه، ليُنتج ماء ورد صافٍ كالذاكرة
قالت « ماماتي فاتن »: الورد العَرْبِي يلزمو الصبر و يِحِبْ اللَّهْوَة و ما يتحمّلش النار القوية
وبين كل خطوة و أخرى، كانت إحداهنّ تَتَفقَّدُ حَرَارَة الماء، و ترشّ على الجمر ماءًا، كما لو أنها تُطفئ نارًا خفية بين الضلوع
الماء ما لازمش يسخن » تضيف « ماماتي فاتن « ، التي كانت تقف قرب القَطَّارْ تراقب اللهيب كما لو أنها تحرس نذرًا قديمًا
في سانية صغيرة بالقيروان اجتمع أخواتتحضير الورد و الماءيوضع الورد العربي الطازج في الجزء السفلي للقَطَّارْ، مع كمية من الماء تكفي لغمره دون إغراقه.قالت « ماماتي فاتن « : الماء لازم يكون قدّ الورد، لا زايد لا ناقص. و الورد ما نغسلوهش، باش تبقى فيه ريحتوإغلاق القِدر بإحكاميُغلق الغطاء النحاسي بإحكام بواسطة قطعة قماش مُبَلَّلَة ثم يُركّب الأنبوب النحاسي الطويل الذي سيُوجّه البخار نحو الفَاشْكَةالتبريد و التجميعيصعد البخار ليمرّ عبر الأنبوب و يتكثف، فتبدأ القطرات الأولى بالنزول، تُسمّى القطرة الأولى « روح الورد » و تُحفظ في قارورة صغيرة خاصةالانتظار و المراقبةالعملية قد تدوم ساعتين أو أكثر، لا مجال للسرعة، الصبايا يُعدن ترتيب الورد، يُحضّرن قوارير زجاجية، و يبدّلن الماء الساخن في االقَطَّارْ باستمرار
البيت لم يعد مجرّد مسكن بل صار كائنًا يتنفّس عطرًا و حنينًا
في كل غرفة تسللت رائحة الورد، امتزجت مع رائحة القهوة و الاثاث القديم و مع ذكرى جدّةٍ كانت تفرش الورد في الغربال لتُجَفِّفَه بعيدا عن اشعة الشمس أمام القَطَّارْ، جلسنا نُراقب قطرات الماء وهي تنزل واحدة تلو الأخرى في الفَاشْكَة في الزاوية، يلعب الأطفال الصغار، و قد التصقت رائحة الورد بملابسهم رتبت “ماماتي فاتن” الفاشكات واحدة تلو الأخرى، وكل فَاشْكَة تحمل تاريخًا و رائحةً ونَفَسًا من قلب القيروان
بصوت زيــنب بوخريـــص
الفجر في القيروان… حين يوقظ العطر الأرواح، مع أول أذان
في عالم سريع حيث الهواتف تُرافقنا حتى في النوم حيث تُخت
Laisser un commentaire